تفسير ابن كثير تفسير الصفحة 287 من المصحف



تفسير ابن كثير - صفحة القرآن رقم 287

287 : تفسير الصفحة رقم 287 من القرآن الكريم

** وَقَالُوَاْ أَإِذَا كُنّا عِظَاماً وَرُفَاتاً أَإِنّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً * قُلْ كُونُواْ حِجَارَةً أَوْ حَدِيداً * أَوْ خَلْقاً مّمّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ فَسَيَقُولُونَ مَن يُعِيدُنَا قُلِ الّذِي فَطَرَكُمْ أَوّلَ مَرّةٍ فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُؤُوسَهُمْ وَيَقُولُونَ مَتَىَ هُوَ قُلْ عَسَىَ أَن يَكُونَ قَرِيباً * يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ وَتَظُنّونَ إِن لّبِثْتُمْ إِلاّ قَلِيلاً
يقول تعالى مخبراً عن الكفار المستبعدين وقوع المعاد القائلين استفهام إنكار منهم لذلك {أئذا كنا عظاماً ورفات} أي تراباً, قاله مجاهد. وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس رضي الله عنهما: غباراً, {أئنا لمبعوثون خلقاً جديد} أي يوم القيامة بعدما بلينا وصرنا عدماً لا نذكر, كما أخبر عنهم في الموضع الاَخر {يقولون أئنا لمردودون في الحافرة * أئذا كنا عظاماً نخرة * قالوا تلك إذا كرة خاسرة}. وقوله تعالى: {وضرب لنا مثلاً ونسي خلقه} الاَيتين, فأمر الله سبحانه رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يجيبهم فقال: {قل كونوا حجارة أو حديد} إذ هما أشد امتناعاً من العظام والرفات {أو خلقاً مما يكبر في صدروكم} قال ابن إسحاق عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: سألت ابن عباس عن ذلك, فقال: هو الموت, وروى عطية عن ابن عمر أنه قال في تفسير هذه الاَية: لو كنتم موتى لأحييتكم, وكذا قال سعيد بن جبير وأبو صالح والحسن وقتادة والضحاك وغيرهم, ومعنى ذلك أنكم لو فرضتم أنكم لو صرتم إلى الموت الذي هو ضد الحياة, لأحياكم الله إذا شاء, فإنه لا يمتنع عليه شيء إذا أراده.
وقد ذكر ابن جرير ههنا حديثاً «يجاء بالموت يوم القيامة وكأنه كبش أملح, فيوقف بين الجنة والنار, ثم يقال: يا أهل الجنة أتعرفون هذا ؟ فيقولون: نعم, ثم يقال: يا أهل النار أتعرفون هذا ؟ فيقولون: نعم, فيذبح بين الجنة والنار, ثم يقال: يا أهل الجنة خلود بلا موت, ويا أهل النار خلود بلا موت» وقال مجاهد {أو خلقاً مما يكبر في صدروكم} يعني السماء والأرض والجبال, وفي رواية: ما شئتم فكونوا فسيعيدكم الله بعد موتكم, وقد وقع في التفسير المروي عن الإمام مالك عن الزهري في قوله: {أو خلقاً مما يكبر في صدوركم} قال النبي صلى الله عليه وسلم: قال مالك ويقولون هو الموت.
وقوله تعالى: {فسيقولون من يعيدن} أي من يعيدنا إذا كنا حجارة أو حديداً أو خلقاً آخر شديداً {قل الذي فطركم أول مرة} أي الذي خلقكم ولم تكونوا شيئاً مذكوراً ثم صرتم بشراً تنتشرون, فإنه قادر على إعادتكم ولو صرتم إلى أي حال {وهو الذي يبدأ الخلق ثم يعيده وهو أهون عليه} الاَية, وقوله تعالى: {يُنفضون إليك رؤوسهم} قال ابن عباس وقتادة: يحركونها استهزاء, وهذا الذي قالاه هو الذي تعرفه العرب من لغاتها, لأن إنغاض هو التحرك من أسفل أعلى أو من أعلى إلى أسفل, ومنه قيل للظليم وهو ولد النعامة نغض, لأنه إذا مشى عجل بمشيته وحرك رأسه, ويقال: نفصت سنّه إذا تحركت وارتفعت من منبتها وقال الراجز:
ونغضت من هرم أسنانها
وقوله: {ويقولون متى هو} إخبار عنهم بالإستبعاد منهم لوقوع ذلك, كما قال تعالى: {ويقولون متى هذا الوعد إن كنتم صادقين} وقال تعالى: {يستعجل بها الذين لا يؤمنون به}. وقوله: {قل عسى أن يكون قريب} أي احذروا ذلك, فإنه قريب سيأتيكم لا محالة, فكل ما هو آت آت. وقوله تعالى: {يوم يدعوكم} أي الرب تبارك وتعالى: {إذا دعاكم دعوة من الأرض إذا أنتم تخرجون} أي إذا أمركم بالخروج منها, فإنه لا يخالف ولا يمانع, بل كما قال تعالى: {وما أمرنا إلا واحدة كلمح بالبصر} {إنما قولنا لشيء إذا أردناه أن نقول له كن فيكون}. وقوله {فإنما هي زجرة واحدة * فإذا هم بالساهرة} أي إنما هو أمر واحد بانتهار, فإذا الناس قد خرجوا من باطن الأرض إلى ظاهرها, كما قال تعالى: {يوم يدعوكم فتستجيبون بحمده} أي تقومون كلكم إجابة لأمره وطاعة لإرادته. قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: فتستجيبون بحمده, أي بأمره, وكذا قال ابن جريج: وقال قتادة بمعرفته وطاعته.
وقال بعضهم {يوم يدعوكم فتستجيبون بحمده} أي وله الحمد في كل حال. وقد جاء في الحديث «ليس على أهل لا إله إلا الله وحشة في قبورهم, كأني بأهل لا إله إلا الله يقومون من قبورهم ينفضون التراب عن رؤوسهم يقولون لا إله إلا الله» وفي رواية يقولون {الحمد لله الذي أذهب عنا الحزن} وسيأتي في سورة فاطر. وقوله تعالى: {وتظنون} أي يوم تقومون من قبوركم {إن لبثتم} أي في الدار الدنيا {إلا قليل}, وكقوله تعالى: {كأنهم يوم يرونها لم يلبثوا إلا عشية أو ضحاه}, وقال تعالى: {يوم ينفخ في الصور ونحشر المجرمين يومئذ زرقاً * يتخافتون بينهم إن لبثتم إلا عشرا * نحن أعلم بما يقولون إذ يقول أمثلهم طريقة إن لبثتم إلا يوم}, وقال تعالى: {ويوم تقوم الساعة يقسم المجرمون ما لبثوا غير ساعة كذلك كانوا يؤفكون}, وقال تعالى: {قال كم لبثتم في الأرض عدد سنين ؟ قالوا لبثنا يوماً أو بعض يومٍ فاسأل العادين, قال إن لبثتم إلا قليلاً لو أنكم كنتم تعلمون}.

** وَقُل لّعِبَادِي يَقُولُواْ الّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنّ الشّيْطَانَ يَنزَغُ بَيْنَهُمْ إِنّ الشّيْطَانَ كَانَ لِلإِنْسَانِ عَدُوّاً مّبِيناً
يأمر تبارك وتعالى عبده ورسوله صلى الله عليه وسلم أن يأمر عباد الله المؤمنين أن يقولوا في مخاطبتهم ومحاورتهم الكلام الأحسن والكلمة الطيبة, فإنهم إن لم يفعلوا ذلك, نزع الشيطان بينهم, وأخرج الكلام إلى الفعال, وأوقع الشر والمخاصمة والمقاتلة, فإنه عدو لاَدم وذريته من حين امتنع عن السجود لاَدم, وعداوته ظاهرة بينة, ولهذا نهى أن يشير الرجل إلى أخيه المسلم بحديدة, فإن الشيطان ينزع في يده أي فربما أصابه بها.
وقال الإمام أحمد: حدثنا عبد الرزاق, حدثنا معمر عن همام عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا يشيرن أحدكم إلى أخيه بالسلاح, فإنه لا يدري أحدكم لعل الشيطان أن ينزغ في يده فيقع في حفرة من النار»أخرجاه من حديث عبد الرزاق. وقال الإمام أحمد: حدثنا عفان, حدثنا حماد, أنبأنا علي بن زيد عن الحسن قال: حدثني رجل من بني سليط قال: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم وهو في رفَلة من الناس فسمعته يقول «المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يخذله التقوى ههنا» قال حماد: وقال بيده إلى صدره «وما تواد رجلان في الله ففرق بينهما إلا حدث يحدثه أحدهما, المحدث شر والمحدث شر والمحدث شر».

** رّبّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ إِن يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ أَوْ إِن يَشَأْ يُعَذّبْكُمْ وَمَآ أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ وَكِيلاً * وَرَبّكَ أَعْلَمُ بِمَنْ فِي السّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَلَقَدْ فَضّلْنَا بَعْضَ النّبِيّينَ عَلَىَ بَعْضٍ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُوراً
يقول تعالى: {ربكم أعلم بكم} أيها الناس أي أعلم بمن يستحق منكم الهداية ومن لا يستحق {إن يشأ يرحمكم} بأن يوفقكم لطاعته والإنابة إليه {أو إن يشأ يعذبكم وما أرسلناك ـ يا محمد ـ عليهم وكيل} أي إنما أرسلناك نذيراً, فمن أطاعك دخل الجنة, ومن عصاك دخل النار. وقوله {وربك أعلم بمن في السموات والأرض} أي بمراتبهم في الطاعة والمعصية {ولقد فضلنا بعض النبيين على بعض} وكما قال تعالى {تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض منهم من كلم الله ورفع بعضهم درجات} وهذا لا ينافي ما ثبت في الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا تفضلوا بين الأنبياء» فإن المراد من ذاك هو التفضيل بمجرد التشهي والعصبية لا بمقتضى الدليل فإذا دل الدليل على شيء وجب اتباعه, ولا خلاف أن الرسل أفضل من بقية الأنبياء, وأن أولي العزم منهم أفضلهم, وهم الخمسة المذكورون نصاً في آيتين من القرآن في سورة الأحزاب {وإذ أخذنا من النبيين ميثاقهم ومنك ومن نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ابن مريم} وفي الشورى قوله: {شرع لكم من الدين ما وصى به نوحاً والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه} ولا خلاف أن محمداً صلى الله عليه وسلم أفضلهم, ثم بعده إبراهيم, ثم موسى ثم عيسى عليهم السلام على المشهور, وقد بسطناه بدلائله في غير هذا الموضع, والله الموفق. وقوله تعالى: {وآتينا داود زبور} تنبيه على فضله وشرفه. قال البخاري: حدثنا إسحاق بن نصر, أخبرنا عبد الرزاق, أخبرنا معمر عن همام عن أبي هريرة رضي الله عنه, عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «خفف على داود القرآن, فكان يأمر بدابته فتسرج, فكان يقرؤه قبل أن يفرغ» يعني القرآن.

** قُلِ ادْعُواْ الّذِينَ زَعَمْتُم مّن دُونِهِ فَلاَ يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضّرّ عَنْكُمْ وَلاَ تَحْوِيلاً * أُولَـَئِكَ الّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَىَ رَبّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنّ عَذَابَ رَبّكَ كَانَ مَحْذُوراً
يقول تعالى: {قل} يا محمد لهؤلاء المشركين الذين عبدوا غير الله {ادعوا الذين زعمتم من دونه} من الأصنام والأنداد فارغبوا إليهم {ف} إنهم {لا يملكون كشف الضر عنكم} أي بالكلية {ولا تحويل} أي بأن يحولوه إلى غيركم, والمعنى أن الذي يقدر ذلك هو الله وحده لا شريك له الذي له الخلق والأمر. قال العوفي عن ابن عباس في قوله: {قل ادعوا الذين زعمتم} الاَية, قال: كان أهل الشرك يقولون نعبد الملائكة والمسيح وعزيراً, وهم الذين يدعون يعني في الملائكة والمسيح وعزيراً.
وقوله تعالى: {أولئك الذين يدعون} الاَية, روى البخاري من حديث سليمان بن مهران الأعمش, عن إبراهيم عن أبي معمر عن عبد الله في قوله {أولئك الذين يدعون يبتغون إلى ربهم الوسيلة} قال: ناس من الجن كانوا يعبدون فأسلموا, وفي رواية: قال: كان ناس من الإنس يعبدون ناساً من الجن, فأسلم الجن وتمسك هؤلاء بدينهم, وقال قتادة عن معبد بن عبد الله الزماني عن عبد الله بن عتبة بن مسعود عن ابن مسعود في قوله {أولئك الذين يدعون} الاَية, قال: نزلت في نفر من العرب كانوا يعبدون نفراً من الجن, فأسلم الجنيون والإنس الذين كانوا يعبدونهم, لا يشعرون بإسلامهم, فنزلت هذه الاَية, وفي رواية عن ابن مسعود كانوا يعبدون صنفاً من الملائكة يقال لهم الجن فذكره.
وقال السدي عن أبي صالح عن ابن عباس في قوله {أولئك الذي يدعون يبتغون إلى ربهم الوسيلة أيهم أقرب} قال: عيسى وأمه وعزير, وقال مغيرة عن إبراهيم: كان ابن عباس يقول في هذه الاَية: هم عيسى وعزير والشمس والقمر. وقال مجاهد: عيسى والعزير والملائكة. واختار ابن جرير قول ابن مسعود لقوله {يبتغون إلى ربهم الوسيلة} وهذا لا يعبر به عن الماضي, فلا يدخل فيه عيسى والعزير والملائكة, وقال والوسيلة هي القربة, كما قال قتادة, ولهذا قال: {أيهم أقرب}. وقوله تعالى: {ويرجون رحمته ويخافون عذابه} لا تتم العبادة إلا بالخوف والرجاء فبالخوف ينكف عن المناهي, وبالرجاء يكثر من الطاعات. وقوله تعالى: {إن عذاب ربك كان محذور} أي ينبغي أن يحذر منه ويخاف من وقوعه وحصوله, عياذاً بالله منه.

** وَإِن مّن قَرْيَةٍ إِلاّ نَحْنُ مُهْلِكُوهَا قَبْلَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ أَوْ مُعَذّبُوهَا عَذَاباً شَدِيداً كَانَ ذَلِك فِي الْكِتَابِ مَسْطُوراً
هذا إخبار من الله عز وجل بأنه قد حتم وقضى بما عنده في اللوح المحفوظ: أنه ما من قرية إلا سيهلكها بأن يبيد أهلها جميعهم أو يعذبهم {عذاباً شديد} إما بقتل أو ابتلاء بما يشاء, وإنما يكون ذلك بسبب ذنوبهم وخطاياهم, كما قال تعالى عن الأمم الماضين {وما ظلمناهم ولكن ظلموا أنفسهم} وقال تعالى: {فذاقت وبال أمرها وكان عاقبة أمرها خسر} وقال {وكأين من قرية عتت عن أمر ربها ورسله} الاَيات.